البعد الوجودي للإنسان في رواية "
التحول " لفرانز كافكا – إيمان الصغير
إن الحديث عن فرانز كافكا يقودنا إلى كاتب خلق عالما فذا
في الكتابة التي لا تخضع لقانون محدد، ولا تتطرق للسائد من المواضيع البديهية، حيث
اتخذ من الغرابة والعبثية ما يجعل رواياته تغوص في عالم السريالية وتتطلب قارئا
ذكيا قادرا على سبر أغوارها واستنطاق دلالاتها فهو القائل أن " الكاتب يجب أن
يكون الفأس التي تكسر بحر الجليد فينا ".
لقد اتخذ كافكا من
الإنسان موضوعا بارزا في كل رواياته «الحكم»، «في مستعمرة
العقاب»، «المحاكمة»، «القلعة». وبالتركيز على
رواية «التحول» باعتبارها محور هذه القراءة، فإنها تضعنا أمام بعد فلسفي
عميق يتمثل في واقع الوجود الإنساني المشبع بالعديد من الهواجس المتوترة، وجود
معلق بين المهد واللحد، لكن، ما بينهما قد تحدث مفاجآت كثيرة تهز الكيان الإنساني
وتخلخل موقعه في العالم ليتحول من إنسان إلى اللاإنسان، فهذا ما وقع تحديدا مع بطل
الرواية غريغور سامسا الذي استيقظ ذات صباح ليجد نفسه تحول إلى حشرة عملاقة مقززة،
وقد جسد كافكا هذا التحول ببراعة بحيث جعل الأحداث تسير، وكأنها طبيعية لا يشوبها
أدنى عجب. كأنه بإمكان أي واحد منا في هذا الكون أن يتحول إلى حشرة دونما سبب أو
تبرير.
إن
غريغور سامسا ما هو إلا انعكاس لرؤية كافكا للإنسان في زمن متخاذل يتحول فيه
الإنسان إلى حشرة لا قيمة لها في المجتمع البشري، فقد عشنا مع هذا البطل قساوة
التحول وتجريده من إنسانيته والقذف به في تلك الغرفة التي أصبحت حفرة مظلمة يعيش
فيها الاغتراب الوجودي والصراع بين روحه الإنسانية وجسده الحشري العفن.
كان غريغور شابا
متفانيا في عمله، خدوما لأسرته، وهب من راحته وصحته واستقراره النفسي ليكون مثاليا
أمام سلطة العمل وسلطة الأسرة، في إطار علاقة قائمة على ما هو براغماتي، انكشف
زيفها عندما تحول إلى حشرة فتم التعامل معه مباشرة على هذا الأساس، بل تمت محاربته
كحشرة ضارة، فالعائلة التي تتكون من الوالدين سامسا والأخت غريتيه تناست أن هذا
الكائن هو غريغور نفسه، كلما اقترب منهم كلما ابتعدوا عنه فارين من مظهره الموحش،
ويمكن أن نسوق نصوصا من الرواية تؤكد ذلك فعن الأخت غريتيه يقول: "وأجالت
نظرها في الغرفة بتلهف، ولم تقع عليه عيناها على الفور. ولكنها حيث أبصرته تحت
الأريكة – لازم، بحق الله، أن يوجد في مكان ما، فليس سهلا عليه أن يكون قد طار–
أصيبت بذعر جعلها تفقد السيطرة على نفسها وتصفق الباب، مغلقة إياه بعنف." (ص37)،
أما الأم التي كانت أمل غريغور في قليل من الرأفة لأنها مصدر الحنان، كلما رأته
إلا وانهارت في إغماء، ثم نجد الأب الذي كان أشد قسوة على ابنه إذ وصلت به إلى
مطاردته كحشرة يقذفه بحبات التفاح التي كانت إحداها سببا في تدهور صحة غريغور
وموته يقول كافكا : " إذ كان غريغور يدرك منذ اليوم الأول من حياته الجديدة
أن أباه كان يعتبر عليه أن يعامله بمنتهى القسوة (...) إذا بشيء ما، تم
قذفه في اتجاهه من دون عنف، يسقط قريبا منه ويتدحرج أمامه. تلك كانت تفاحة (...)
لكن تفاحة أخرى تبعتها على الفور انغرست في ظهره وتوغلت، ورغب في أن يجر نفسه
ويتقدم قليلا، كما لو أن ذلك الألم المفاجئ والذي لا يصدق كان سيزول عنه إن غير
موضعه" (ص61).
يطرح كافكا
إشكالية تحول العلاقات الإنسانية من علاقة مشبعة بالمنفعة - لأن وجود الإنسان حين
ذاك يكون وجودا نفعيا - إلى علاقة متوترة تنحو نحو العداوة مادام وجود الإنسان لا
قيمة له كالحشرات، من منا لا يصادف حشرة أمامه ويدهسها بقدمه، من منا لا يستعمل
مبيدا ليقتل الحشرات المزعجة فقط لأنها مجرد حشرات لا دور لها في سيرورة الحياة،
كأنها خلقت عبثا، إلا أنه لا يجب أن نغفل أن مصير الإنسان مهدد بالسقوط من في أي
لحظة إلى الحضيض فيصبح هو نفسه حشرة دونية، لكن مصير غريغور سامسا لا ينحصر فقط في
تحوله إلى حشرة بل تجاوز ذلك إلى الموت، حيث عزمت أسرته على التضحية به دون أن
يتبادر إلى أذهانهم أنه هو الذي ضحى بكل شيء من أجلهم، دون أن يفكروا في أنه سيعود
يوما إلى طبيعته فقط يحتاج بعض الوقت وبعض الأمل وقول أخته غريتيه يعكس ذلك حينما
عبرت قائلة: " علينا أن نحاول التخلص منه. لقد قمنا بكل ما في مستطاع كائنات
بشرية من أجل الاعتناء به، واحتماله، وتحلينا بالصبر اللازم لذلك، وما من أحد، في
اعتقادي، يمكنه أن يوجه إلينا أدنى لوم." (ص80). بصيص الأمل
الأخير الذي تمسك به غريغور انطفأ وتلاشى، فلا مكان للحشرات بين البشر، دب اليأس
في جسده، فتلعثمت حركاته في فوضوية الظلام ليعلن في صمت رحيله عن
الوجود، ولد إنسانا ومات حشرة، فتخلصوا منه وأكملوا حياتهم بسلام.
قدم
لنا فرانز كافكا مقاربة دقيقة لحتمية الوجود الإنساني، المرتبط بالنفعية ومدى قدرة
هذا الإنسان على خدمة المجتمع، فغريغور ما هو إلا صورة تعكس بجلاء وضع الإنسان في
هذا العالم المتصدع الذي قد يسلب منه إنسانيته ويضحي به كحشرة بائسة، لقد لمسنا مع
البطل كل أشكال الضياع والوهم والاغتراب والاحتضار وفقدان الحيوية، تأرجحنا معه
بين الأمل واليأس، لقد خلق الإنسان ليحيا ويحتفي بإنسانيته ويتسمك بها إلى آخر
رمق، لكن عندما يكون العالم المحيط بك متشرذما يدفع بك إلى النزول نحو الجحيم
ليغتال حريتك، لأنك لم تعد صالحا للبقاء، ولم تعد لك أدنى قيمة، كل هذا يجعلك تطلب
الموت. غريغور رغم تحوله الحشري كان متشبثا بالحياة حتى أنه بدأ يقتنع بحياته
الجديدة كحشرة بين البشر، هذا ما جعله يعيش نوعا من الإقصاء بإرادته، إذ أنه لم
يبد أي رفض أمام هذا الواقع الجديد الذي فقد فيه نفسه وضاعت في غياهب الظلام
الأبدي.
تبعا
لذلك يبقى مصير الوجود الإنساني موضوع بين ثلاث خيارات : إما أن يعيش إنسانا أو
يعيش حشرة على الهامش أو يموت. إنه نوع من التشظي الوجودي، فمن المفروض أن يتحكم
الإنسان في مصيره وأن يُسيِّر نفسه بنفسه، ولا يسمح للعالم بالعبث به، أن يتمرد
ضاربا عرض الحائط كل القوانين المبتذلة، فالبقاء على هذه الأرض أصبح للأقوى، فلو
كان غريغور قويا بما يكفي، يفكر في نفسه قبل كل شيء، لو تمرد على رؤسائه في العمل،
لو تمرد على عائلته وصرح بتعبه وملله، لم تكن له القدرة على ذلك لأنه تعود على
الخنوع وخدمة الآخر، فقد عاش حياته كآلة تخدم مصالح محيطها دون ان تفكر في
مصلحتها، لذلك فلا غرابة أن يكون هذا سبب تحول الإنسان إلى حشرة عندما يسقط
بإرادته في دائرة الضعف ويجعل إنسانيته متاحة للعالم يفعل بها ما يشاء.
إيمان
الصغير
إرسال تعليق